المهاجر من هجر ما نهي الله عنه

الرقاق

تعريف الهجرة، وأنها ليست احتفالًا الاستعداد الأمثل للسنة الهجرية الجديدة


المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإننا سنتحدث اليوم عن عدة عناصر:

شهر الله المحرم، وما له من الفضائل

هجرة النبي ليست للإحتفال

كيف نستقبل العام الهجري الجديد؟

ملك الملوك اذا أعطى عطايا، ورتب على عطاياه أجور فينبغي للعبد أن يتأدب في الإستقبال والإستعداد، فيعتبر الغافل، ويزداد المؤمن إيمانًا.

شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك، أحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].

وهذه الأربعة الحرم فسرها النبي: عن أبي بكرة رضي الله عنهُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرُم: ثلاثة متواليات ذو القعدةِ وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان» (رواه البخاري 2958) والمحرم سمي بذلك لكونه شهراً محرماً وتأكيداً لتحريمه.

وقوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: في هذه الأشهر المحرمة لاتعصوا الله ولاترتكبوا الفواحش لأنها آ كد وأبلغ في الإثم من غيرها، فتحصل المضاعفة للذنوب كيفًا لا كمًا لا تزيد السيئة لعشر امثالها مثلا، لكن الجرم فيها أشد، كما قال الشيخ ابن باز وغيره.

وقال قتادة في قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها.

وأظلم الظلم أن تعامل ما عظمه الله على أنه مثل غيره، فإنما تُعظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل السديد، فالله سبحانه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، بالإكثار من فعل الطاعات فيها، واجتناب المحرمات.

 

الهجرة ليست للإحتفال

أراد عمر بن الخطاب أن يؤسس التقويم الهجري حتى يكون هذا سمة تقويم المسلمين، وحتى يتذكر الناس هجره النبي، ويعتقد الكثيرون أن هجرة النبى صلى الله عليه وسلم كانت فى أول شهر المحرم، وهذا خطأ شائع، بل إن النبي هاجر في شهر ربيع الأول، وسبب بدء السنة الهجرية من شهر الله المحرم أن عمر بن الخطاب في عهده جعل البدء منه بعد منصرف الناس من الحج، وهو شهرٌ حرام، فاعتمدوا التاريخ الهجري من سنة الهجرة كبداية، لا من الشهر الذي هاجر فيه النبي.

. هل هناك علاقة بين الهجرة وتحديد شهر المحرم ( بداية التأريخ )؟

قال الحافظ ابن حجر

(( وإنما أخروه من الربيع الأول إلى المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم؛ إذ البيعة كانت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أولُ هلال استُهل به بعد البيعة والعزم على الهجرة هلالَ المحرم، فناسب أن يُجعل مبتدأ ))

الهجرة: كان النبي يعيش في مكة معززًا مكرمًا معروف بالصادق الأمين، وبارك الله له في المال والتجاره، وعنده الزوجه، ومن نسب كبير، لكنه تركه أحب البلاد الى قلبه وهاجر، لأنه أرسله الله بالتوحيد، والوحي وتطبيق شرع الله ودعوة الناس إليه، فهاجر لأن المشركين اعترضوا طريقه، فأراد تأسيس دولة للمسلمين تنطلق منها الدعوة للناس كافة، فهاجر الى المدينة، وكان اسمها يثرب، وسماها النبي المدينة ليبين للناس أن الذي يريد أن يقيم مدينة لابد أن تكون على نفس نهج مدينة رسول الله، ثم بعدما تمسك بالوحي فيها عاد فاتحًا منتصرًا لمكة التي هاجر منها ﴿إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ * وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجا﴾[النصر 1-2]، هذه اللحظة التي يتمناها كل نبي، وكل مصلح، نتيجة دعوته وثمرتها، ومع ذلك كانت هذه الآيات علامة قرب أجل النبي .

الناس تحتفل بالهجرة ولم تعلم أن الهجرة تمحيص تميز الصادق من الكاذب، ولم تعلم أن الهجرة كانت بذلًا وتضحية، كان تركًا لا احتفالًا ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾[التوبة ٤٠] فمن أحب أن يسير في طريق النبي، فكلما تذكر الهجرة، فليهجر معصية الله، فليهجر رفقه السوء، فليهجر بلد الكفر، وكما قال النبي: { المهاجر من هجر مانهى الله -عز وجل- عنه}

قال ورقة بن نوفل: "ليتني أكون فيها جذعاً -أي شاباً- إذ يخرجك قومك"، الكل يتمنى أن يكون موجودًا لحظة التمكين، لحظة انتصار الدين، لحظة دخول الناس فى دين الله، لكن أن يتمنى أحد أن يكون شابًا قويًا في لحظة قمة استضعاف هذا الدين فهذا يدل على صدقه، لذلك روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنةً أو جنتين)

 

من الأخطاء في استقبال شهر الله المحرم: "إنهاء شهر ذى الحجة بالصيام، وافتتاح شهر المحرم بالصيام؛ لأجل ختم السنة بصيام، وافـتتاحها بصيام"

وهذا لا أصل له فى الكتاب ولا فى الـسـنـة، إنما ورد في حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وفـيـه: (( من صام آخرَ يومٍ من ذي الحجَّةِ وأوَّلَ يومٍ من المحرَّمِ، فقد ختم السَّنةَ الماضيةَ بصومٍ، وافتتح السَّنةَ المستقبَلةَ بصومٍ -جعل اللهُ له كفَّارةَ خمسين سنةً ))

تنبيه: مَن  كانت له عادة وصادفت ذلك، فـلا حـرج، أو صادف آخِـر ذى الحجة الخميس أو الاثنين وكانت عادته، فلا حرج، ومن أراد أن يستكثر من الصيام في المحرم؛ لما ورد في فضل الصيام فيه_ فلا حرج_.

 

كيفيه استغلال العام الهجري الجديد:

بعد ما انتهت السنة الماضية بشهر ذي الحجة، ويوم عرفة الذي صيامه يكفر سنه ماضية وسنه مستقبله، فلابد أن نبدأ سنة جديدة بطاعات مختلفة، وبهمة عالية.

الأصل في المسلم أن يخطط لكل يوم من أيام حياته؛ فقد قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما من يوم ينشق فجره إلا ويُنادى: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد منى فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة".

 

أولًا: شهر الله المحرم له مزيه على غيره وهي الصيام:

فضل الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم» (رواه مسلم 1982).

شهر الله المحرم، أضافه الله لنفسه تعظيمًا له، وبيانًا لفضله، وتخصيص أفضلية الصيام بعد رمضان في أول شهر في السنة الهجرية هذا أمر عظيم، لأن عبادة الصيام ليست كأي عبادة:

فهي عبادة أجرها لله تكفل الله بثواباه كما في الحديث القدسي: فعن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ".

وكذلك عبادة الصيام صاحبها في طاعة طوال الوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكذلك في الليل النيه والإستعداد للسحور عبادة لله.

 

ثانيًا: محاسبة النفس، فالإنسان سيحاسب على كل كبيرة وصغيرة، قال الله -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا.

 

ثالثًا: التخطيط للعام الجديد.

وهذه أهم نقطة لابد أن ترسخ في الذهن، عمل خطه لاستدراك التقصير في العام الماضي، واتمام النقص، وعمل مبادرة لفعل طاعات وترك محرمات، وتحديد أهداف وعبادات بتحسينها أو عمل أشياء لم يكن يعملها، وهي من شقين:

الأول: الطاعات؛ ويكون بتجويد الطاعات الحالية، كالخشوع في الصلاة، والإخبات والتفكر في الذكر، وتدبر القرءان؛ والإكثار من الطاعات والنوافل التي تقرب الى الله؛ كالذكر والمحافظة على ورد ثابت، وأعظم الذكر قراءة القرءان، وكذلك طلب العلم الشرعي ووضع خطة للرقي فيه والمتابعة، والعمل بالعلم، تحديد صدقة ثابته ولو يسيرة للتقرب من الله، والبر وصلة الأرحام، لأن الأشهر الحرم تتضاعف فيها الحسنات كما تعظم فيها السيئات.

قال الشيخ العثيمين:

ومن العبارات المشهورة عند العلماء؛ قولهم: "تضاعف الحسنة في كل زمان ومكان فاضل"

فأرجو أن تكون الطاعة في الأشهر الحرم مضاعفة؛ كما أن المعصية في الأشهر الحرم أشد وأعظم.

 

الشق الثاني: البعد عن الذنوب والمعاصي، فلو كنت على ذنب تتوب منه، ثم تعود إليه، اعزم على التوبة النصوح، وقل لنفسك كفى يانفس، أما آن لك أن تكوني في عداد المتقين؟!.

قال النبي: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهُم اللهُ ولا ينظرُ إليهم يومَ القيامةِ ولا يزكِّيهِم ولهم عذابٌ أليمٌ : شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذابٌ ، وفقيرٌ مختالٌ"

وعقوبة هؤلاء الثلاثة عظيمة، "لا يُكلِّمُهمُ اللهُ" أي لايكلمهم كلام رضا، فالله يكلم تكليم رضا، ويكلم تكليم استعتاب من أجل أن يعتذر العبد فيُقبل عذره، ويكلم بتكليم تبكيت وإهانة، كما يقول الله -تبارك وتعالى- لأهل النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ.

"وَلا يَنظُرُ إلَيهمْ"، وهذِه مُبالَغةٌ في العُقوبةِ؛ فلا ينظُرُ اللهُ إلَيهِم نَظرةَ رَحمةٍ فيَرحمَهُم،

"وَلا يُزَكِّيهمْ"، أي: وَلا يُطهِّرُهم مِن ذُنوبِهم ولا يَغفِرُ لهمْ، وذلك لأن التطهير يحصل بالإيمان والعمل الصالح الله يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا.

"وَلهُمْ عَذابٌ عظيمٌ"، أي: فَوقَ كلِّ تلكَ العُقوباتِ فَسوفَ يدخِّرُ اللهُ لهمْ عذابًا عَظِيمًا في الآخِرةِ فيُضاعِفُ علَيهم العُقوبةَ.

أمَّا الأوَّلُ فهوَ "شَيخٌ زانٍ"، أي: رَجلٌ كَبيرُ السِّنِّ قد وقَعَ في فاحِشةِ الزِّنا، معَ أنَّهُ قدْ بلغَ مِن الرُّشدِ والعَقلِ وذَهابِ الشَّهوةِ ومع ذلك زنى رغم ضعف الشهوة.

الثاني "مَلِكٌ كذَّابٌ"، أي: مَلِكٌ توفَّرتْ لهُ أسبابُ القُوَّةِ والتَّمكينِ ومع ذلك يَكذِبُ على رَعيَّتِه، رغم أن غالب الكذب بسبب الضعف، والخوف ومثله اب أو أم تكذب على أطفالها، ما الداعي لذلك؟.

الثالِثُ "عائِلٌ مُستَكبِرٌ"، أي: فَقيرٌ مُتكبِّرٌ على الخَلقِ بلا داعٍ؛ لأنَّ الإنسانَ قدْ يتكَبَّرُ بمالِهِ أو جاهِهِ وسُلطانِهِ وقوَّتِه، قال تعالى: {كلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} أمَّا الفَقيرُ الذي هو عالةٌ على غَيرِهِ فلا سببَ يجعلُهُ يتكَبَّرُ.

والثلاثة ذنوب ليست على محل قابل، فكان هذا دليل على تشرب قلوبهم للذنوب، صارت عادة لهم، فيفعلوها بدون سبب واضح، وبدون داعٍ، وهذا والعياذ بالله دليل على استخفافه بحق الله، وضعف تعظيمه لجناب خالقه ومولاه

د. آلاء ممدوح محمود

أم مارية الأثرية.